فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (108):

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} الكلام فيه ما علمتخلا أنه لم يذكر هاهنا أن لهم بهجة وسرورًا كما ذكر في أهل النار {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] لأن المقام مقام التحذير والإنذار، و{سُعِدُواْ} بالبناء للمفعول قراءة حمزة. والكسائي. وحفص، ونسبت إلى ابن مسعود. وطلحة بن مصرف. وابن وثاب. والأعمس، وقرأ جمهور السبعة {سُعِدُواْ} بالبناء للفاعل، واختار ذلك علي بن سليمان، وكان يقول: عجبًا من الكسائي كيف قرأ {سُعِدُواْ} مع علمه بالعربية، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم: مسعود، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلًا تقول: سعده الله تعالى عنى أسعده، وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد مثل قولهم: سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله تعالى فهو مسعود،. وأسعده الله تعالى فهو مسعد، وما ألطف الإشارة في شقوا. وسعدوا على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى. ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم، ومصدره الجذ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة، وبالمعجمة أكثر، ونصب {عطاءًا} على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه: {سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا} يقتضي إعذاءًا وإنعامًا فكأنهم قيل: يعطيهم إعطاءًا وهو إما اسم مصدر هو الاعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]، وقيل: هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة. أو تمييز، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناءًا ومبالغة في التأبيد ودفعًا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع، وقيل: إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة وهو إما نفس الدخول. أو ما هو كاللازم البين له لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى؛ أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار؛ والثاني بقوله تعالى: {عطاءًا} إلخ بيانًا لأن إحسانه لا ينقطع، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه، وا أخرج إسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ:{وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ} [هود: 106] الآية، وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض *إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: 108] قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا إلى غير ذلك من الآثار.
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص بأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين، وأول البعض بعضها؛ ومر شيى من الكلام في ذلك، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أتي تحصى، ولا يقاوم واحدًا منها كثير من هذه الأخبار، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدى بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي، وأما التفريق ففي قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] وأما التقسيم ففي قوله سبحانه: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} [هود: 106] إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه ** فهذا له فن وهذا له فن

فللخامل العليا وللمعدم الغني ** وللمذنب العتبي وللخائف الأمن

ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء {فَمِنْهُمْ} وفاء {فَأَمَّا} إلخ، قيل: وفي العدول عن فأما الشقى ففي النار خالدًا فيها إلخ وأما السعيد أو المسعود ففي الجنة خالدًا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد. والترمذي. والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم أجلهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وأن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فنبذهما وقال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» وجاء في حديث: «الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر لملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك، وبعضهم فسر الأمر بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنة.
وأبو يعلى. وابن مردويه. وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزلت {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له»، وقيل: كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعًا إيذانًا بأن المراد بشقى وسعيد فريق شقي. وفريق سعيد، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل، وقيل: الإفراد أولا للاشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد، وجمع ثانيًا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعًا جمعًا وزمرة وله شواهد من الكتاب والسنة.

.تفسير الآية رقم (109):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}
{تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي في شك، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلاتك في شك بعد أن بين لك ما بين {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم فمن ابتدائية، وجوز أن تكون عنى في، و{مَا} مصذرية، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ} استئناف في بياني وقع تعليلًا في المعنى للنهي عن المرية، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محدوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئًا إلا مثل الذي عبدون من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأنه التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى {كَمَا يَعْبُدُ} كما كان عبد فحذف لدلالة {قَبْلُ} عليه، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} يعني هؤلاء الكفرة {نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم. أو من الرزق فيكون عذرًا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره، وفي التعبير بالنصيب على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب عزل عن ذلك، وتفسيره بما ذكر مروى عن ابن زيد، وبالرزق عن أبي العالية، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر، وقرأ ابن محيصن {لَمُوَفُّوهُمْ} مخففًا من أوفى {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وفائدته دفع توهم التجوز، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي، وقال: إنه الحق.
وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه. وثلث حقه. وحقه كاملا. وناقصا انتهى، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل: وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملًا لم أنقصهمنه شيئًا، وأما قولك: وفيته حقه كاملًا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما قولك: وفيته حقه ناقصًا فغير صحيح للمنافاة انتهى.
وقال ابن المنير: إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملًا كان أو بعضًا فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد، والأوجه أن يقال: استعملت التوفية عنى الإعطاء كما استعمل الووفي عنى الأخذ، ومن قال: أعطيت فلانًا حقه كان جديرًا أن يؤكده بقوله: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} انتهى، وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك: نصف حقه وحقه منصفًا، فجاز وفيته نصيبه منصفًا ونصيبه ناقصًا، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} أي التوراة {فاختلف فِيهِ} أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن، وقولهم: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] وعزم {إِنَّكَ افتريته}.
وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر، وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا؟ مستلزمًا للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا، وقيل: إن في على هذا الاحتمال عنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بانزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى، قيل: وليس بذاك.
وقال ابن عطية: عوده على القومين أحسن عندي، وتعقب بأن قوله سبحانه: {وَإِنَّ كُلًا} [هود: 111] إلخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر، والأولى عندي الأول {وَإِنَّهُمْ} أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الالباس {لَفِى شَكّ} عظيم {مِنْهُ} أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فان ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لاسيما بصدد التسلية يناديه نداءًا غير خفي.
وقيل: الضمير للوعيد المفهوم من الكلام {مُرِيبٍ} أي موقع في الريبة، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة.